سورة البقرة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


وقال الحرالي وعطف تعالى على ذكر البعث ذكر حال من مثل أحوال أهل الجنة الذي ينالونه بعد البعث، فكأن عامتهم الذين لم يموتوا إنما شركوا هؤلاء المبعوثين لكونهم كأنهم ماتوا بموتهم وبعثوا ببعثهم، فذكر ظل الغمام وهو من أمر ما بعد البعث والأرزاق بغير كلفة وهو من حال ما بعد البعث وأفهم ذلك أموراً أخر في أحوالهم كما يقال إن ملابسهم كانت تطول معهم كلما طالوا فكأنهم أخرجوا من أحوال أهل الدنيا بالجملة إلى شبه أحوال أهل الجنة في محل تيههم ومستحق منال العقوبة لهم كل ذلك إنعاماً عليهم، ثم لم يزيدوا مع ذلك إلا بعداً عن التبصرة في كل ما أبدي لهم من العجائب- حدث عن بني إسرائيل ولا حرج فقال: {وظللنا} من الظلة وهو وقاية مما ينزل من سماء الموقي و{عليكم الغمام} من الغم وهو ما يغم النور أي يغطيه- انتهى. أي فعلنا ذلك لترفيه أجسامكم وترويح أرواحكم، وعن مجاهد أن الغمام أبرد من السحاب وأرق وأصفى {وأنزلنا عليكم المن} قال الحرالي: هو ما جاء بغير كلفة، الكمأة من المن- انتهى. {والسلوى} أي لطعامكم على أن المن من الغمام، وحشر السلوى إليهم بالريح المثيرة له فنظمها به على غاية التناسب. قال الحرالي: والسلوى اسم صنف من الطير يقال هو السماني أو غيره- انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف أنه غير السماني وأنهم خصوا به إيذاناً بقساوة قلوبهم.
وهذه الخارقة قد كان صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم غنيين عنها بما كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما احتاجوا دعا بما عندهم من فضلات الزاد فيدعو، فيكثره الله حتى يكتفوا من عند آخرهم، وأعطى أبا هريرة رضي الله عنه تمرات وأمره أن يجعلها في مزود وقال له: أنفق ولا تنثرها، فأكل منه سنين وأنفق منه أكثر من خمسين وسقاً. وبارك لآخر في قليل شعير وأمره أن لا يكيله، فلم يزل ينفق منه على نفسه وامرأته وضيفه حتى كاله فنفي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم» وكان نحو ذلك لعائشة رضي الله عنها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا لأم مالك رضي الله عنها في عكة سمن لم تزل تقيم لها أدمها حتى عصرتها. ومثل ذلك كثير في دلائل النبوة للبيهقي وغيره. وقيل لكم {وكلوا} ودل على أنه أكثر من كفايتهم بقوله: {من طيبات} جمع طيبة. قال الحرالي: والطيب ما خلص من منازع يشارك فيه وطيّبه من سوى الأكل له أي لم ينازعه وليس فيه حق لغيره، ومنه الطيب في المذاق وهو الذي لا ينازعه تكره في طعمه، وهذا زاد على ذلك بكونه لم يكن عن عمل حرث ولا معاملة مع خلق- انتهى.
{ما رزقناكم} أي على عظمتنا التي لا تضاهى.
ولما لم يرعوا هذه النعم أعرض عنهم للإيذان باستحقاق الغضب. وقال الحرالي: ثم أعرض بالخطاب عنهم وأقبل به على محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه- انتهى. فقال {وما} أي فظلموا بأن كفروا هذه النعم كلها وما {ظلمونا} بشيء من ذلك {ولكن كانوا} أي جبلة وطبعاً {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون} لأن ضرر ذلك مقصور عليهم. قال الحرالي: وفيه إشعار بتحذير هؤلاء أن يروا نحواً مما رأوا فينالهم نحو مما نالوه، لأن قصص القرآن ليس مقصوده مقصوراً على ذكر الأولين فقط بل كل قصة منه إنما ذكرت لما يلحق هذه الأمة في أمد يومها من شبه أحوال من قص عليهم قصصه- انتهى.
ولما كان كل من ظل الغمام ولزوم طعام واحد غير مألوف لهم مع كونه نعمة دنيوية وكان المألوف أحب إلى النفوس تلاه بالتذكير بنعمة مألوفة من الاستظلال بالأبنية والأكل مما يشتهى مقرونة بنعمة دينية. وقال الحرالي: لما ذكر تعالى عظيم فضله عليهم في حال استحقاق عقوبتهم في تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وهو مبتدأ أمر تيههم حين أبوا أن يقاتلوا الجبارين نظم به آخر أمر تيههم بعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام حين دخولهم مع يوشع عليه السلام وما أمروا به من دخول البلد المقدس متذللين بالسجود الذي هو أخص رتب العبادة وكمال عمل العامل ودنو من الحق- انتهى. فقال تعالى: {وإذ قلنا} أي لكم {ادخلوا هذه القرية} إشارة إلى نعمة النصر. قال الحرالي: الدخول الولوج في الشيء بالكلية حساً بالجسم ومعنى بالنظر والرأي، والقرية من القرى وهو الجمع للمصالح التي بها يحصل قوام الدنيا لقرى أهل الدنيا والتي تجمع مصالح أهل الآخرة، لقرى أهل الآخرة، قال عليه السلام: «أُمرت بقرية تأكل القرى» باستيطانها كأنها تستقري القرى تجمعها إليها، وقد تناوبت الياء والهمزة والواو مع القاف والراء على عام هذا المعنى- انتهى. وناسب سياق النعم الدلالة على تعقيب نعمة الدخول بالفاء في قوله: {فكلوا منها حيث شئتم} وأتمّ النعمة بقوله: {رغداً} موسعاً عليكم طيباً. قال الحرالي: وفيه أي هذا الخطاب تثنية في ذكر الأرض لما تقدم من نحوه لآدم في السماء، فكان تبديلهم لذلك عن فسق لا عن نسيان كما كان أمر آدم عليه السلام، فكأنهم اقتطعوا عن سنته إلى حال الشيطان الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه، فتحقق ظلمهم حين لم يشبهوا آباءهم وأشبهوا عدو أبيهم- انتهى. وأمرهم بالشكر على نعم النصر والإيواء وإدرار الرزق بأمر يسير من القول والفعل، وقدم الدخول السار للنفوس والسجود الذي هو أقرب مقرب للحضرة الشريفة لأنه في سياق عد النعم على القول المشعر بالذنب فقال {وادخلوا الباب} وهو كما قال الحرالي أول مستفتح الأشياء والأمور المستغلقة حساً أو معنى حال كونكم {سجداً وقولوا} جامعين إلى ندم القلب وخضوع الجوارح الاستغفار باللسان، ولما كان القول تحكى به الجمل فتكون مفعولاً بها ويعمل في المفرد إذا كان مصدراً أو صفة لمصدر كقلت حقاً أو معبراً به عن جملة كقلت شعراً وما كان على غير هذا كان إسناداً لفظياً لا فائدة فيه غير مجرد الامتثال رفع قوله: {حطة} أي عظيمة لذنوبنا.
قال الكشاف: والأصل النصب أي حط عنا ذنوبنا إلاّ أنه رفع ليعطي معنى الثبات. قال الحرالي: من الحط وهو وضع الحمل الثقيل بمُنّة وجمام قوة يكون في الجسم، والمعنى أمروا بقول ما يحط عنهم ذنوبهم التي عوّقتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من معه من المهاجرين والأنصار بشعب من الشعاب متردداً بين الحرمين الشريفين- يعني في عمرة الحديبية- فقال قولوا: «لا إله إلاّ الله» وعند ذلك دخول الشعب الذي هو باب المدخل من نجد الأرض إلى سهلها «فقالوها، فقال: والذي نفسي بيده! إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوها فبدلوها» انتهى. وعبر بنون العظمة في قوله: {نغفر لكم} إشارة إلى أنه لا يتعاظمه ذنب وإن عظم كاتخاذ العجل إذا جُبّ بالتوبة، وفي قراءة من قرأ بالتحتانية والفوقانية مبنياً للمجهول إشارة إلى تحقير الذنوب إذا أراد غفرانها بحيث إنه بأدنى أمر وأدق إشارة بمحوها وهي أقل من أن يباشرها بنفسه المقدسة، كل ذلك استعطاف إلى التوبة والغفر قال الحرالي: ستر الذنب أن يظهر منه أثر على المذنب لا عقوبة ولا ذكر- ثم قال: ففي قراءة {نغفر} تول من الحق ومن هو من حزبه من الملائكة والرسل، وفي قراءة: تغفر، إبلاغ أمر خطابهم بما يفهمه التأنيث من نزول القدر، وفي قراءة الياء توسط بين طرفي ما يفهمه علو قراءة النون ونزول قراءة التاء، ففي ذلك بجملته إشعار بأن خطاياهم كانت في كل رتبة مما يرجع إلى عبادة ربهم وأحوال أنفسهم ومعاملتهم مع غيرهم من أنبيائهم وأمثالهم حتى جمعت خطاياهم جميع جهات الخطايا الثلاث، فكأنهم ثلاثة أصناف: صنف بدلوا، وصنف اقتصدوا، وصنف أحسنوا فيزيدهم الله ما لا يسعه القول و{هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان} [الرحمن: 60] انتهى. ولما كان السياق هنا لتعداد النعم حسن أن يعبر عن ذنوبهم بجمع الكثرة فقال {خطاياكم} إشارة إلى أنهم أصروا عليها بحيث كادوا أن يجعلوا بإزاء كل نعمة ذنباً، والخطايا جمع خطيئة من الخطأ وهو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو وَدِّ أن لا يخطئ- هكذا قال الحرالي، والظاهر أن المراد هنا ما كان عن عمد كائناً ما كان، لأن ذلك أولى بسياق الامتنان والعقوبة بالعصيان.
قال في القاموس: والخطيئة الذنب أو ما تعمد منه والخطأ ما لم يتعمد، جمعه خطايا، وقرئ شاذاً: خطيئاتكم، بالجمع السالم الدال على القلة إشارة إلى أنّها وإن تكاثرت فهي في جنب عفوه قليل، وهذا بخلاف الأعراف فإن السياق هناك لبيان إسراعهم في الكفر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وناسب عدّ النعم العطف على ما تقدم منها بقوله: {وسنزيد المحسنين} أي بعد غفران ذنوبهم. قال الحرالي: جمع محسن من الإحسان وهو البلوغ إلى الغاية في حسن العمل، فيكون مع الخلق رؤية المرء نفسه في غيره فيوصل له من البر ما يجب أن يفعل معه، ورؤية العبد ربّه في عبادته، فالإحسان فيما بين العبد وربّه أن يغيب عن نفسه ويرى ربه، والإحسان فيما بين العبد وغيره أن يغيب عن غيره ويرى نفسه، فمن رأى نفسه في حاجة الغير ولم ير نفسه في عبادة الرب فهو محسن، وذلك بلوغ في الطرفين إلى غاية الحسن في العمل بمنزلة الحسن في الصورة- انتهى.
ولمّا كان هذا التصريح بالترغيب المتضمن للتلويح بالترهيب مقتضياً للعاقل المبادرة إلى الطاعة بين أنه تسبب عنه أن بعضهم عصوا وكفروا هذه النعمة العظيمة ولم يقتصروا على ترك هذا الأمر بل بدلوه بدخولهم كما في الحديث «يزحفون على أستاههم قائلين: حبة في شعرة» أي جنس الحب في جنس الشعرة أي في الغرائر مطلوبنا لا الحطة وهي غفران الذنوب. قال الحرالي: أمروا بالإخلاص لله نظراً إلى حياة قلوبهم فطلبوا الحنطة نظراً إلى حياة جسومهم فقال تعالى: {فبدل} من التبديل وهو تعويض شيء مكان شيء- انتهى. {الذين ظلموا} وأسقط: منهم، لما يأتي في الأعراف {قولاً} أي مكان القول الذي أمروا به.
ولما كان التبديل وإن كان يفهم التغيير لكنه يصدق بأدنى تغيير ولو أنه في اللفظ وإن اتّحد المعنى بيّن أنه مضاد له بحيث لا يمكن اجتماعهما بقوله: {غير الذي قيل لهم} فإن غيراً كما قال الحرالي كلمة تفهم انتفاء وإثبات ضد ما انتفى، وقال: ذكر تعالى عدولهم عن كل ذلك واشتغالهم ببطونهم وعاجل دنياهم فطلبوا طعام بطونهم التي قد فرغ منها التقدير وأظهر لهم الغناء عنها في حال التيه بإنزال المن والسلوى إظهاراً لبلادة طباعهم وغلبة حب العاجلة عليهم فبدلوا كلمة التوحيد وهي لا إله إلاّ الله وهي الحطة بطلب الحنطة {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66] {ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف: 96] «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» انتهى. وبيّن أنه خصّ المبدلين بالعتاب نعمة منه مع أن له أن يعم فقال {فأنزلنا} أي بعظمتنا بسبب ذلك {على الذين ظلموا} أي خاصة {رجزاً} قال الحرالي: هو أشد العذاب، وما جره أيضاً يسمى رجزاً مما يجب أن يزجر عنه والزجر كف البهائم عن عدواها- انتهى. ولما كان الإنزال مفهماً للسماء حققه تعظيماً له بقوله: {من السماء بما} أي بسبب ما {كانوا يفسقون} أي يجددون الخروج من الطاعة إلى المعصية في كل وقت. ففي إفهامه أنهم يعودون إلى الطاعة بعد الخروج منها وذلك مقتض لأن يكون يظلمون أشد منه كما يأتي. قال الحرالي: فبحق يجب على من دخل من باب جبل أو قرية أن يقول في وصيدها: لا إله إلاّ الله، ليحط عنه ماضي ذنوبه، فكأنّ ذكر الله في باب المدينة والشعب ذكاة لذلك المدخل، فمن لم يدخله مذكياً دخله فاسقاً {لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} [الأنعام: 121] فلذلك ما انختم ذكرهم في الآية بالفسق- انتهى.


ولما بين سبحانه نعمته عليهم بالإمكان من القرية بالنصر على أهلها والتمتع بمنافعها وختمه بتعذيبهم بما يميت أو يحرق وتبين من ذلك كله أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة كما سيأتي التصريح به من قول الله تعالى في قصة البقرة وأنها لا منفعة فيها اتبعه التذكير بنعمته عليهم في البرية بما يبرد الأكباد ويحيي الأجساد فذكر انفجار الماء من الحجر الذي عمهم نفعه وأنقذهم من الموت تبعة ودلهم على التوحيد والرسالة أصله وفرعه بقدرة الصانع وعلمه جمعاً لهم بذلك بين نعمتي الدين والدنيا فقال تعالى: {وإذ استسقى} أي طلب السقيا. قال الحرالي: والسقيا فعلى صيغة مبالغة فيما يحصل به الري من السقي والسقي إحياء موات شأنه أن يطلب الإحياء حالاً أو مقالاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسق عبادك!» ثم قال: «وأحي بلدك الميت» انتهى. {موسى لقومه} أي لما خافوا الموت من العطش {فقلنا} أي بما لنا من العظمة حين خفيت عنهم {اضرب} قال الحرالي: من الضرب وهو وقع الشيء على الشيء بقوة {بعصاك} والعصا كأنها ما يكف به العاصي، وهو من ذوات الواو، والواو فيه إشعار بعلو كأنها آلة تعلو من قارف ما تشعر فيه الياء بنزول عمله بالمعصية، كأن العصو أدب العصي، يقال عصا يعصو أي ضرب بالعصا اشتقاق ثان، وعصى يعصي إذا خالف الأمر- انتهى. {الحجر} أي جنسه فضرب حجراً {فانفجرت} وما أنسب ذكر الانفجار هنا بعد ختم ما قبل بالفسق لاجتماعهما في الخروج عن محيط، هذا خروج يحيي وذاك خروج يميت. قال الحرالي: الانفجار انبعاث وحي من شيء موعى أو كأنه موعى انشق وانفلق عنه وعاؤه ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه- انتهى. ولأن هذا سياق الامتنان عبر بالانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاث مع انتشار واتساع وكثرة، ولما لم يكن {منه} أي الحجر الذي ضربه {اثنتا عشرة عيناً} لكل سبط عين، والعين قال الحرالي هو باد نام قيم يبدو به غيره، فما أجزأ من الماء في ري أو زرع فهو عين، وما مطر من السماء فأغنى فهو عين، يقال إن العين مطر أيام لا يقلع وإنما هو مطر يغني وينجع، وما تبدو به الموزونات عين، وما تبدو به المرئيات من الشمس عين، وما تنال به الأعيان من الحواس عين، والركية وهي بئر السقيا عين، وهي التي يصحفها بعضهم فيقول: الركبة- بالباء يعني الموحدة- وإنما هي الركيّة- بالياء المشددة- كذا قال، وقد ذكر أهل اللغة عين الرُكبة؛ وعدّ في القاموس المعاني التي لهذا اللفظ نحو أربعين، منها نقرة الركبة أي بالموحدة، ومنها مفجر ماء الركية بالتحتانية مشددة.
ولما توقع السامع إخبار المتكلم هل كانت الأعين موزعة بينهم معروفة أو ملبسة قال {قد علم كل أناس} أي منهم. قال الحرالي: وهو اسم جمع من الأنس- بالضم، كالناس اسم جمع من النوس، قال: فلم يسمهم باسم من أسماء الدين لأن الأسماء تجري على حسب الغالب على المسمّين بها من أحوال تدين أو حال طبع أو تطبع {مشربهم} مكتفاهم من الشرب المردد مع الأيام ومع الحاجات في كل وقت بما يفهمه المفعل اسم مصدر ثان مشتق من مطلق الشرب أو اسم محل يلزمه التكرار عليه والتردد، فجعل سبحانه سقياهم آية من آياته في عصاه، كما كانت آيته في عصاه على عدوه الكافر، فكان فيها نقمة ورحمة؛ وظهر بذلك كمال تمليكه تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم حين كان ينبع من بين أصابعه الماء غنياً في نبوعه عن آلة ضرب أو حجر، وتمليك الماء من أعظم التمكين، لأنه تمكين فيما هو بزر كل شيء ومنه كل حي وفيه كل مجعول ومصور- انتهى. يعني أن هذه الخارقة دون ما نبع للنبي صلى الله عليه وسلم من الماء من بين أصابعه، ودون ما نبع بوضع أصحابه سهماً من سهامه في بئر الحديبية وقد كانت لا ماء فيها، ونحو ذلك كثير.
ولما كان السياق للامتنان وكان الإيجاد لا تستلزم التحليل للتناول قال زيادة على ما في الأعراف ممتناً عليهم بنعمة الإحلال بعد الإيجاد على تقدير القول لأنه معلوم تقديره {كلوا واشربوا من رزق الله} أي الذي رزقكموه من له الكمال كله من غير كد ولا نصب. قال الحرالي: لما لم يكن في مأكلهم ومشربهم جرى العادة حكمته في الأرض فكان من غيب فأضيف ذكره لاسم الله الذي هو غيب {ولا تعثوا} من العثو وهو أشد الفساد وكذلك العثي إلا أنه يشعر هذا التقابل بين الواو والياء، إن العثو إفساد أهل القوى بالسطوة والعثى إفساد أهل المكر بالحيلة- انتهى. {في الأرض} أي عامة، لأن من أفسد في شيء منها بالفعل فقد أفسد فيها كلها بالقوة. واتباع ما معناه الفساد قوله: {مفسدين} دليل على أن المعنى ولا تسرعوا إلى فعل ما يكون فساداً قاصدين به الفساد، فإن العثي والعيث الإسراع في الفساد، لكن قد يقصد بصورة الفساد الخير فيكون صلاحاً في المعنى، كما فعل الخضر عليه السلام في السفينة والغلام، وليس المراد بالإسراع التقييد بل الإشارة إلى أنه لملاءمته للهوى لا يكون إلا كذلك، سيأتي له في سورة هود عليه السلام إن شاء الله تعالى مزيد بيان. قال الحرالي: وفيه إشعار بوقوع ذلك منهم، لأن في كل نهي إشعاراً بمخالفته، إلا ما شاء الله، وفي كل أمر إشعاراً بموافقته إلا ما شاء الله، لأن ما جبل عليه المرء لا يؤمر به لاكتفاء إجباره فيه طبعاً عن أمره، وما منع منه لا ينهى عنه لاكتفاء إجباره عن أمره، وإنما مجرى الأمر والنهي توطئة لإظهار الكيان في التفرقة بين مطيع وعاص، فكان منهم لذلك من العثي ما أوجب ما أخبر به الحق عنهم من الهوان، وأشد الإفساد إفساد بنيان الحق الذي خلقه بيده وهي مباني أجساد بني آدم فكيف بالمؤمنين منهم فكيف بالأنبياء منهم- انتهى.
ولما امتنّ عليهم بهذه النعمة العظمة من أكل المن والسلوى وشرب هذا الماء الرباني بين أنهم كفروها بالتضجر منها وطلب غيرها وبالتيه كان قريباً منها بل كما أن هذه في غاية العلو كان مطلوبهم في غاية الدناءة والسفول فقال تعالى: {وإذ قلتم} أي بعد هذه النعم كلها {يا موسى} منادين له باسمه من غير تعظيم {لن نصبر} أي طويلاً {على طعام} قال الحرالي: الطعام ما يقوت المتطعم ويصير جزاء منه {فلينظر الإنسان إلى طعامه} [عبس: 24] الآية- انتهى. {واحد} أي لا يتبدل وإن كان متعدداً وإن كان شريفاً لا تعب فيه {فادع لنا} قال الحرالي: من الدعاء وهو نداء لاقتضاء غلبة لما تدعو الحاجة إليه من القائم على الداعي بتذلل وافتقار وهو في مقابلة الأمر من الأعلى، لأنه اقتضاء لما لا تدعو إليه حاجة من الآمر لأن الآمر بالحقيقة إنما هو الغني لا المفتقر لما يقضيه- انتهى. {ربك} مضيفين لهذا الاسم إليه دون أنفسكم مع كثرة تجليه لكم بهذا الوصف الناظر إلى الإحسان {يخرج لنا} أي وإن كنت أنت غير ملتفت إلى ذلك {مما تنبت} من الإنبات وهو التغذية والتنمية- قاله الحرالي. {الأرض} ثم بينوا ما أرادوا بقولهم {من بقلها} أي خضرها. قال الحرالي: البقل ما يكثر به الأدم، والأدم الأشياء الدسمة فما يصلح معها من نجم الأرض فهو بقل- انتهى. {وقثائها وفومها} أي الحنطة. وقال الحرالي: يقال هو الحب الذي يخبز- انتهى. {وعدسها وبصلها} فكأنه قيل إن هذا العجب منهم فما قال؟ فقيل قال {قال} منكراً عليهم {أتستبدلون} أي أتأخذون {الذي هو أدنى} أي منزلة {بالذي هو خير} أي بدله. فالباء داخلة هنا على المتروك وهذه المادة أعني الباء والدال المهملة واللام بهذا الترتيب لها استعمالات كثيرة يختلف معناها معها فيشكل فهمها بسبب ذلك، فإنه قد يذكر معها المتقابلان فقط، وقد يذكر معها غيرها، وقد لا يكون كذلك، وقد يكون ذلك مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء، وقد لا يكون كذلك، وقد يذكران مع التبديل والإبدال، وتارة تكون الباء داخلة على المتروك، وتارة على المأخوذ، وقد يعدي الفعل بنفسه إلى المفعولين، وتارة يقتصر به على مفعول واحد؛ ولبعض الاستعمالات معنى غير معنى الآخر وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى في سورة سبأ فكأنه قيل: فهل أجابهم إلى سؤالهم؟ فقيل: نعم، قال {اهبطوا مصراً} أي من الأمصار، قال الحرالي: المصر هو البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدنيا الذي يجمع هذه المطالب التي طلبوها لأن ما دون الأمصار لا يكون فيها إلا بعضها، ومنه سميت مصر لجماع أمر ما في الدنيا فيها وغرابة سقياها، وإن وافق ذلك ما يقال إنها سميت مصر باسم رجل فالوفاق في حكمه الله، لأن كل دقيق وجليل فيها جارٍ بعلم الله وحكمته حيث كانت من وراء حجاب يخفيها أو ظاهرة بادية لأهل النظر والاستبصار- انتهى.
{فإن لكم} أي فيه {ما سألتم} وينقطع عنكم المن والسلوى، والسؤال قال الحرالي طلب ما تدعو إليه الحاجة وتقع به الكفاية، قال: وذكر تعالى أن مطلبهم إنما يجدونه في الأمصار التي أقر فيها حكمته لا في المفاوز التي تظهر فيها كلمته، ولذلك كثيراً ما تنخرق العدة لأولياء هذه الأمة في المفاوز وقل ما تنخرق في الأمصار والقرى، لما في هذه الآية مضمونة، ولذلك حرص السالكون على السياحة والانقطاع عن العمائر، لما يجدون في ذلك من روح رزق الله عن كلمته دون كلفة حكمته.
ولما نظم سبحانه بنبأ موسى عليه السلام ما كان من نبأهم مع يوشع عليه السلام بعده نظم في هذه الآية بخطاب موسى عليه السلام ما كان منهم بعد يوشع عليه السلام إلى آخر اختلال أمرهم وانقلاب أحوالهم من حسن المظاهرة لنبيهم إلى حال الاعتداء والقتل لأنبيائهم عليهم السلام، وفي جملته إشعار بأن ذلك لم يكن منهم إلا لأجل إيثار الدنيا ورئاستها ومالها على الآخرة إيثاراً للعاجلة على الآجلة، وفي طيه أشد التحذير لهذه الأمة في اتباعهم لسنن أهل الكتاب في مثل أحوالهم؛ ولذلك انتظم بها الآية الجامعة وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمة ثم استوفى الملل التي لها صحة على ما يذكر آنفاً إن شاء الله تعالى- انتهى. ولما كان التقدير ففعلوا ما أمروا به من هبوط المصر فكان ما وعدوا به عطف عليه قوله: {وضربت عليهم الذلة} ملازمة لهم محيطة بهم من جميع الجوانب كما يحيط البيت المضروب على الإنسان به، وهي اسم من الذل وهو صغار في النفس عن قهر وغلبة. قال الحرالي: وفي عطفه إفهام لمجاوزة أنباء عديدة غايتها في الظهور ما عطف عليها كأن الخطاب يفهم فأنزلناهم حيث أنزلوا أنفسهم ومنعناهم ما لا يليق عن حاله مثل حالهم فظهر منهم وجوه من الفساد، فسلط عليهم العدو فاستأصل منهم من شاء الله ومن بقي منهم أخذوا بأنواع من الهوان- انتهى. {والمسكنة} أي كذلك مناسبة لخساسة ما سألوه.
قال الحرالي: وهي ظهور معنى الذل أو التذلل على ظاهر الهيئة والصورة سكوناً وانكفاف حراك- انتهى. {وباؤوا} أي رجعوا وكانوا أحقاء {بغضب} من باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له. قال الحرالي: معناه إجماع القاهر على الانتقام في حق مراغمة- انتهى.
{من الله} الملك الأعظم لجرأتهم على هذا المقام الأعظم مرة بعد مرة وكرة إثر كرة. قال الحرالي: وفيه تهديد لهذه الأمة بما غلب على أهل الدنيا منهم من مثل أحوالهم باستبدال الأدنى في المعنى من الحرام والمتشابه بالأعلى من الطيب والأطيب المأخوذ عفواً واقتناعاً- انتهى.
ثم ذكر سبب هذا وقال الحرالي: ولما كان الغضب إنما يكون على من راغم الجليل في معصيته ووقعت منهم المراغمة في معصيتهم واعتدائهم ذكر فعلهم- انتهى. فقال {ذلك} أي الأمر العظيم الذي حل بهم من الغضب وما معه، ويجوز أن يرجع إلى اهتمامهم بأمر معاشهم وعنايتهم بأحوال شهواتهم على هذا النحو الأخس الأدنى {بأنهم} أي بسبب أنهم {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يكفرون} أي مجددين مستمرين {بآيات الله} أي يسترون إذعانهم وتصديقهم بسبب آيات الله الذي له جميع العظمة كتماناً عمن لا يعلم الآيات وتلبيساً، وكان تجديد ذلك والإصرار عليه ديدناً لهم وخلقاً قائماً بهم. قال الحرالي: والكفر بالآيات أبعد الرتب من الإيمان، لأنه أدنى من الكفر بالله، لأن الكفر بالله كفر بغيب والكفر بآيات الله كفر بشهادة {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة} [البلد: 19] انتهى. {ويقتلون النبيين} أي كان ذلك جبلة لهم وطبعاً. قال الحرالي: وهذا جمع نبيء وهو من النبأ وهو الإخبار عن غيب عجز عنه المخبر به من حيث أخبر- انتهى.
ولما كان النبي معصوماً ديناً ودنيا قال {بغير الحق} أي الكامل تنبيهاً على أن قتله لا يقع إلا كذلك، لكن ه


قوله: {ثم توليتم} والتولي قال الأصفهاني: أصله الإعراض عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمر والدين- انتهى. وهو هنا الإعراض المتكلف بما يفهمه التفعل- قاله الحرالي. وذلك لأن النفوس إذا توطنت على أمر الله فرأت محاسنه فرجعت بذلك إلى نحو من الفطر الأولى لم ترجع عنه إلاّ بمنازعة من الهوى شديدة.
ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد أدخل الجار فقال: {من بعد ذلك} أي التأكيد العظيم عن الوفاء به {فلولا} أي فتسبب عن توليكم أنه لولا {فضل الله} أي الذي له الجلال والإكرام مستعل {عليكم ورحمته} بالعفو والتوبة والإكرام بالهداية والنصر على الأعداء {ولكنتم من الخاسرين} بالعقوبة وتأبد الغضب، وأيضاً فلما كان يمكنهم أن يدعوا الإيمان والعمل الصالح عقبت تلك بآية الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق، وهو جميع ما آتاهم في التوراة إيماناً مصحوباً بالقوة، ومما آتاهم صفة عيسى ومحمد عليهما السلام والأمر باتباعهما، فهو مما أخذ عليهم به العهد وقد كفروا به فلم يصح لهم إيمان ولا عمل، لأن التفرقة بين ما أتى منه سبحانه زنذقة.
ثم جاءت قصة المعتدين في السبت مؤكدة لذلك إذ كان حاصلها أنهم لما ضيعوا أمراً واحداً من أوامره واستخفوا به وهو تحريم السبت عذبهم بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين فقال: ولقد وأقرب من ذلك أن يقال إنه سبحانه لما ذكرهم بنعمة العفو الحافظ لهم من الخسران قرعهم بحلافة أخرى لهم خذل بها فريقاً منهم حتى غلبهم الخسران فما ضروا إلاّ أنفسهم مقسماً على أنهم بها عالمون ولها مستحضرون فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره: لقد علمتم جميع ذلك من عهودنا وما ذكرنا من الإيقاع بمن نقض من شديد وعيدنا ومن التهديد على ذلك بضرب الذلة وما تبعها من أنواع النكال و{لقد} أي وعزتي لقد {علمتم الذين اعتدوا} أي تعمدوا العدوان {منكم في السبت} بأن استحلوه وأصل السبت القطع للعمل ونحوه {فقلنا} أي فتسبب عن اعتدائهم أن قلنا بما لنا من العظمة. {لهم كونوا} بإرادتنا {قردة خاسئين} أي صاغرين مطرودين جمع خاسئ من الخسئ وهو طرد بكره واستخباث، وسبب ذلك أن الله تعالى أمرهم بيوم الجمعة فأبوا إلا السبت، فألزمهم الله إياه وجعله لهم محنة وحرم عليهم فيه العمل، فاصطادوا على تهيب وخوف من العقوبة، فلما طال زمن عفوه عنهم وحمله سبحانه فتجاهروا بالمعصية مسخ منهم من عصى بالمباشرة ومن سكت عن النهي عن المنكر {فجعلناها} أي فتسبب عن قولنا إنهم كانوا قردة كما قلنا، فجعلنا هذه العقوبة {نكالاً} أي قيداً مانعاً {لما بين يديها} من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها {وما خلفها} ممن جاء بعدهم، روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، والنكال إبداء العقوبة لمن يتّعظ بها، واليد ما به تظهر أعيان الأشياء وصورها أعلاها وأدناها، فلذلك ثنيت لأنها يد عليا هي اليمنى ويد دنيا هي اليسرى، والخلف ما يخلفه المتوجه في توجهه فينطمس عن حواس إقباله شهوده- قاله الحرالي.
وقال {وموعظة} من الوعظ وهو دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها {للمتقين} وقد أشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور وأن النقم تقع في غيرهم وعظاً لهم.
ولما بين تعالى قساوتهم في حقوقه عامة ثم خاصة اتبعه بيان جساوتهم في مصالح أنفسهم لينتج أنهم أسفه الناس فقال {وإذ قال موسى لقومه} بني إسرائيل {إن الله} أي الذي له الأمر كله {يأمركم أن تذبحوا بقرة} لتعرفوا بها أمر القتيل الذي أعياكم أمره، وتاؤها ليست للتأنيث الحقيقي بل لأنها واحدة من الجنس فتقع على الذكر والأنثى. ولما كان من حقهم المبادرة إلى الامتثال والشكر فلم يفعلوا بيّن فظاظتهم على طريق الاستئناف معظماً لها بقوله حكاية عنهم {قالوا أتتخذنا هزواً} أي مكان هزء ومهزوءاً بنا حين نسألك عن قتيل فتأمرنا بذبح بقرة، فجمعوا إلى ما أشير إليه من إساءتهم سوء الأدب على من ثبتت رسالته بالمعجزة فرد كلامه كفر، فذكرهم بما رأوا منه من العلم بالله المنافي للهزء بأن قال {أعوذ بالله} أي أعتصم بمن لا كفوء له من {أن أكون من الجاهلين} فإنه لا يستهزئ إلا جاهل، والعوذ اللجاء من متخوَّف لكاف يكفيه، والجهل التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم- قاله الحرالي. {قالوا} تمادياً في الغلظة {ادع لنا ربك} أي المحسن إليك فكان تخصيصهم له بالإضافة غاية في الجفاء {يبين} من التبيين وهو اقتطاع الشيء، والمعنى مما يلابسه ويداخله- قاله الحرالي. والمراد المبالغة في البيان بما يفهمه صيغة التفعيل {لنا ما هي} تلك البقرة {قال إنه يقول} ولما كانوا يتعنتون أكد فقال {إنها بقرة لا فارض} أي مسنة فرضت سنها أي قطعتها {ولا بكر} أي فتية صغيرة {عوان} أي نصف وهو خبر مبتدأ محذوف، وبين هذا الخبر بقوله: {بين ذلك} أي سني الفارض والبكر {فافعلوا ما تؤمرون} فإن الاعتراض على من يجب التسليم له كفر فلم يفعلوا بل سألوا بيان اللون بعد بيان السن بأن {قالوا ادع لنا ربك} تمادياً في الجفاء بعدم الاعتراف بالإحسان {يبين لنا ما لونها} بعد بيان سنها، واللون تكيف ظاهر الأشياء في العين- قاله الحرالي.
{قال} وأكد لما مضى من تلددهم فقال {إنه يقول} وأكد إشارة إلى مزيد تعنتهم فقال {إنها بقرة صفراء} وأكد شدة صفرتها بالعدول عن فاقعة إلى قوله معبراً باللون {فاقع لونها} أي خالص في صفرته. قال الحرالي: نعت تخليص للون الأصفر بمنزلة قانئ في الأحمر فهي إذن متوسطة اللون بين الأسود والأبيض كما كانت متوسطة السن، {تسر الناظرين} أي تبهج نفوسهم بأنك إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها- قاله وهب {قالوا ادع لنا ربك} المحسن إليك بالإجابة في كل ما سألته {يبين لنا ما هي} ثم عللوا تكريرهم لذلك بقولهم {إن البقر} أي الموصوف بما قدمته {تشابه} أي وقع تشابهه {علينا} وذكر الفعل لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحدة فإن العرب تذكره نقل عن سيبويه؛ ثم أدركتهم العناية فقالوا {وإنا إن شاء الله} أي الذي له صفات الكمال وأكدوا لما أوجب توقفهم من ظن عنادهم وقدموا التبرك بالمشية لذلك على خبر إن {لمهتدون} أي إلى المراد فتبركوا بما لا تكون بركة إلا به {قال إنه يقول إنها} أي هذه البقرة التي أطلتم التعنت في أمرها {بقرة لا ذلول} من الذل وهو حسن الانقياد- قاله الحرالي ثم وصف الذلول بقوله: {تثير الأرض} أي يتجدد منها إثارتها بالحرث كل وقت من الإثارة قال الحرالي: وهي إظهار الشيء من الثرى، كأنها تخرج الثرى من محتوى اليبس؛ ولما كان الذل وصفاً لازماً عبر في وصفها بانتفائه بالاسم المبالغ فيه، أي ليس الذل وصفاً لازماً لها لا أنها بحيث لا يوجد منها ذل أصلاً، فإنها لو كانت كذلك كانت وحشية لا يقدر عليها أصلاً.
ولما كان لا يتم وصفها بانتفاء الذل إلا بنفي السقي عنها وكان أمراً يتجدد ليس هو صفة لازمة كالذل عبر فيه بالفعل وأصحبه لا عطفاً على الوصف لا على تثير لئلا يفسد المعنى فقال واصفاً للبقرة {ولا تسقي الحرث} أي لا يتجدد منها سقيه بالسانية كل وقت، ويجوز أن يكون إثبات لا فيه تنبيهاً على حذفها قبل تثير، فيكون الفعلان المنفيان تفسيراً على سبيل الاستئناف للاذلول، وحذف لا قبل تثير لئلا يظن أنه معها وصف لذلول فيفسد المعنى، والمراد أنها لم تذلل بحرث ولا سقي ومعلوم من القدرة على ابتياعها وتسلمها للذبح أنها ليست في غاية الإباء كما آذن به الوصف بذلول، كل ذلك لما في التوسط من الجمع لأشتات الخير {مسلّمة} أي من العيوب {لا شية} أي علامة {فيها} تخالف لونها بل هي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها {قالوا الآن} أي في هذا الحد من الزمان الكائن الفاصل بين الماضي والآتي {جئت بالحق} أي الأمر الثابت المستقر البين من بيان وصف البقرة فحصلوها {فذبحوها} أي فتسبب عما تقدم كله أنهم ذبحوها {وما كادوا} أي قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة {يفعلون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم لكنهم شددوا في السؤال فشدد الله عليهم- يعني أنهم كلفوا بالأسهل فشددوا فنسخ بالأشق، وهو دليل جواز النسخ قبل الفعل، أو يقال إنه لما كان السبت إنما وجب عليهم وابتلوا بالتشديد فيه باقتراحهم له وسؤالهم إياه بعد إبائهم للجمعة كما يأتى إن شاء الله تعالى بيانه عند قوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} [النحل: 124] كان أنسب الأشياء تعقيبه بقصة البقرة التي ما شدد عليهم في أمرها إلا لتعنتهم فيه وإبائهم لذبح أيّ بقرة تيسرت، ويجوز أن يقال إنه لما كان من جملة ما استخفوا به السبت المسارعة إلى إزهاق ما لا يحصى من الأرواح الممنوعين منها من الحيتان وكان في قصة البقرة التعنت والتباطؤ عن إزهاق نفس واحدة أمروا بها تلاه بها، ومن أحاسن المناسبات أن في كل من آيتي القردة والبقرة تبديل حال الإنسان بمخالطة لحم بعض الحيوانات العجم، ففي الأولى إخراسه بعد نطقه بلحم السمك، وفي الثانية إنطاقه بعد خرسه بالموت بلحم البقر، ولعل تخصيص لحم البقر بهذا الأمر لإيقاظهم من رقدتهم وتنبيههم من غفلتهم عن عظيم قدرة الله تعالى لينزع من قلوبهم التعجب من خوار العجل الذي عبدوه. وقال الإمام أبو الحسن الحرالي: وفي ذلك تشامّ بين أحوالهم في اتخاذهم العجل وفي طلبهم ذلك، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكدّ وعمل الأرض التي معها التعب والذل والتصرف فيما هو من الدنيا توغلاً فيها وفيه نسمة مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو أثر الحرث- يعني الذي أبدلوا الحطة به وهو حبة في شعرة، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً} [الشورى: 11]- انتهى. ولما قسمت القصة شطرين تنبيهاً على النعمتين: نعمة العفو عن التوقف عن الأمر ونعمة البيان للقاتل بالأمر الخارق، وتنبيهاً على أن لهم بذلك تقريعين: أحدهما بإساءة الأدب في الرمي بالاستهزاء والتوقف عن الامتثال والثاني على قتل النفس وما تبعه، ولو رتبت ترتيبها في الوجود لم يحصل ذلك، وقدم الشطر الأنسب لقصة السبت اتبعه الآخر. وقال الحرالي: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر تدارئهم في القتيل ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة- انتهى.
فقال تعالى: {وإذ} أي واذكروا إذ، وأسند القتل إلى الكل والقاتل واحد لأن ذلك عادة العرب، لأن عادة القبيلة المدافعة عن أحدهم فقال {قتلهم نفساً} فأقبل عليهم بالخطاب توبيخاً لهم وإشارة إلى أن الموجودين منهم راضون بما مضى من أسلافهم وأن من ودّ شيئاً كان من عملته.
ولما كانوا قد أنكروا القتل سبب عنه قوله مشيراً إلى إخفائه بالإدغام {فادارأتم فيها} أي تدافعتم فكان كل فريق منكم يردّ القتل إلى الآخر فكان لكم بذلك ثلاثة آثام: إثم الكبيرة وإثم الإصرار وإثم الافتراء بالدفع؛ قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، كأنه يشير إلى ما أذكره عنها قريباً.
ولما كان فعلهم في المدارة فعل غافل عن إحاطة علم الخالق سبحانه قال يحكي حالهم إذ ذاك {والله} أي والحال أن الذي له الأمر كله {مخرج} بلطيف صنعه وعظيم شأنه {وما كنتم تكتمون} وفي تقديمه أيضاً زيادة تبكيت لهم بتوقفهم في ذبح بقرة أمروا بذبحها لمصلحة لهم عظيمة بعد مبادرة بعضهم إلى قتل إنسان مثله بعد النهي الشديد عنه وقال منبهاً بالالتفات إلى أسلوب العظمة على ما في الفعل المأمور به منها {فقلنا} أي بما لنا من العظمة {اضربوه} وأضمر ذكر البقرة ولم يظهر دلالة على اتحاد هذا الشق الأول من القصة الذي جعل ثانياً بالشق الذي قبله في أنهما قصة واحدة فقال {ببعضها} قال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة: قلنا اضربوا المقتول ببعض البقرة فضربوه به فحيي، يعني والدليل على هذا المحذوف قوله: {كذلك} أي مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة {يحيي الله} أي الذي له صفات الكمال {الموتى} مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد- انتهى. روي أنهم لما ضربوه قام وقال: قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأخدا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك؛ وهذه الخارقة كما أَخْبَرَ نَبِيَّنا صلى الله عليه وسلم ذراعُ الشاة المسمومة بأنه مسموم لما سمته اليهودية التي كانت في قومها هذه الآية، وجعل هذا التنبيه على البعث في قصصهم، لأنه من أعظم الأدلة عليه، وقد وقع منهم ما ساغ معه عدهم منكرين وهو قولهم للمشركين: دينكم خير من دين محمد، أو أن هذا تنبيه مقصود به حث العرب على سؤال من استنصحوهم في السؤال عن النبي صلى الله عليه وسلم لكونهم أهل العلم الأول، فهو ملزِم لهم باعتقاد البعث أو اعتقاد كذب اليهود، وعبر بالاسم العلم لأن الإحياء من أخص الآيات بصفة الإلهية كما أن الإرزاق أخص الآيات بالربوبية {ويريكم آياته} فيما يشهد بصحته {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا برؤية تلك الآيات الشاهدة له على رجاء من أن يحصل لكم عقل فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره مما تخبر به الرسل عن الله تعالى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8